فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {شَيْئًا فَرِيًّا} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: أنه القبيح من الإفتراء، قاله الكلبي.
الثاني: أنه العمل العجيب، قاله الأخفش.
الثالث: العظيم من الأمر، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
الرابع: أنه المتصنع مأخوذ من الفرية وهو الكذب، قاله اليزيدي.
الخامس: أنه الباطل.
قوله تعالى: {يَآ أُخْتَ هَارُونَ} وفي هذا الذي نسبت إليه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه كان رجلًا صالحًا من بني إسرائيل ينسب إليه من يعرف بالصلاح، قاله مجاهد وكعب، والمغيرة بن شعبة يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه هارون أخو موسى فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان، قاله السدي.
الثالث: أنه كان أخاها لأبيها وأمها، قاله الضحاك.
الرابع: أنه كان رجلًا فاسقًا معلنًا بالفسق ونسبت إليه، قاله ابن جبير.
{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} أي زانية. وسميت الزانية بغيًا لأنها تبغي الزنا أي تطلبه.
قوله تعالى: {فَأشَارَتْ إِلَيْهِ} فيه قولان:
أحدهما: أشارت إلى الله فلم يفهموا إشارتها، قاله عطاء.
الثاني: أنها أشارت إلى عيسى وهو الأظهر، إما عن وحي الله إليها، وإما لثقتها بنفسها في أن الله تعالى سيظهر براءتها، فأشارت إلى الله إليها، فأشارت إلى عيسى أن كلموه فاحتمل وجهين:
أحدهما: أنها أحالت الجواب عليه استكفاء.
الثاني: أنها عدلت إليه ليكون كلامه لها برهانًا ببراءتها.
{قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ} وفي {كَانَ} في هذا الموضع وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى يكون تقديره من يكون في المهد صبيًا قاله ابن الأنباري.
الثاني: أنها صلة زائدة وتقديره من هو في المهد، قاله ابن قتيبة.
وفي {الْمَهْدِ} وجهان:
أحدهما: أنه سرير الصبي المعهود لمنامه.
الثاني: إنه حجرها الذي تربيه فيه، قاله قتادة. وقيل إنهم غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أعظم من زناها، قاله السدي. فلما تكلم قالوا: إن هذا لأمر عظيم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}.
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت أن الله سيبين عذرها أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه، روي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به. و(الفري) العظيم الشنيع، قال مجاهد والسدي، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري بمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل، و(الفري) من الأسقية الجديد، وقرأ أبو حيوة: {شيئًا فرْيًا} بسكون الراء، واختلف المفسرون في معنى قوله عز وجل، {يا أخت هارون}. فقالت فرقة كان لها أخ اسمه {هارون} لأن هذا الاسم كان كثيرًا في بني اسرائيل، تبركًا باسم هارون أخي موسى، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم {أخت هارون} وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له. فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، فالمعنى أنه اسم وافق اسمًا، وقال السدي وغيره: بل نسبوها الى {هارون} أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخًا فلانة ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم»، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست ب {أخت لهارون} أخي موسى، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى عليه وسلم قاله فهو أصدق وخير، والاَّ فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة، قال فسكتت. وقال قتادة: كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع الى الله يسمى {هارون} فنسبوها الى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلًا لما أتيت به. وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمن رجل فاجر اسمه {هارون} فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ذكره الطبري ولم يسم قائله، والمعنى {ما كان أبوك} ولا أمك أهلًا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ و(البغي) التي تبغي الزنا أي تطلبه، أصلها بغوي فعول وقد تقدم ذكر ذلك.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}.
التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب {إني نذرت للرحمن صومًا} [مريم: 26] وإنما ورد انها {أشارت إليه} فيقوى بهذا القول من قال إن أمرها ب {قولي} إنما أريد به الإشارة، ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير {كيف نكلم من كان في المهد صبيًا} وإنما هي في معنى هو ويحتمل أن تكون الناقصة والأظهر أنها التامة وقد قال أبو عبيدة {كان} هنا لغو، وقال الزجاج والفراء {مَنْ} شرطية في قوله: {من كان} (ع) ونظير كان هذه قول رؤية: الرجز:
أبعد أن لاح بك القتير ** والرأس قد كان له شكير

و{صبيًا} إما خبر {كان} على تجوز وتخيل في كونها ناقصة، وإما حال يعمل فيه الاستقرار المقدر في الكلام. وروي أن {المهد} يراد به حجر أمه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله}.
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يومًا حين طهرت من نفاسها.
وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به، فذلك قوله تعالى: {فأتتْ به قومها تحمله}.
فإن قيل: (أتت به) يغني عن {تحمله} فلا فائدة للتكرير.
فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهَّم السامع {فأتت به} أن يكون ساعيًا على قدميه، فيكون سعية آيةً كنطقه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مِثْل قول العرب: نظرت إِلى فلان بعيني، فنفَوْا بذلك نظر العطف؛ والرحمة، وأثبتوا أنه نظرُ عَيْنٍ.
وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بَكَوْا، وكانوا قومًا صالحين؛ و{قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريًّا} وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: شيئًا عظيمًا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
قال الفراء: الفريُّ: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفريَّ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس، قيل هذا فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فما رأيت عبقريًا يفري فَرْيَ عمر».
والثاني: عَجبًا فائقًا، قاله أبو عبيدة.
والثالث: شيئًا مصنوعًا، ومنه يقال: فريت الكذب، وافتريته، قاله اليزيدي.
قوله تعالى: {يا أخت هارون} في المراد بهارون هذا خمسة أقوال.
أحدها: أنه أخ لها من أُمِّها، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال الضحاك: كان من أبيها وأُمِّها.
والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس.
وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنُسبت إِليه، لأنها من ولده.
والثالث: أنه رجل صالح كان في بني إِسرائيل، فشبَّهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: {يا أخت هارون} وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أُجيبهم، فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فقال: ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم».
والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به، قاله وهب بن منبِّه.
فعلى هذا يخرج في معنى (الأخت) قولان:
أحدهما: أنها الأخت حقيقة.
والثاني: المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى: {وما نريهم من آية إِلا هي أكبر من أختها} [الزخرف: 48].
قوله تعالى: {ما كان أبوكِ} يعنون: عِمران {امرأَ سَوْءٍ} أي: زانيًا {وما كانت أُمُّكِ} حنَّة {بَغِيًّا} أي: زانية، فمن أين لكِ هذا الولد؟!
قوله تعالى: {فأشارت} أي: أومأت {إِليه} أي: إِلى عيسى فتكلَّم.
وقيل المعنى: أشارت إِليه أنْ كلِّموه.
وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت قومها، وقال: يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلِّموه، تعجَّبوا من ذلك، و{قالوا كيف نكلِّم من كان} وفيها أربعة أقوال.
أحدها: أنها زائدة، فالمعنى كيف نكلِّم صبيًا في المهد؟!.
والثاني: أنها في معنى: وقع، وحدث.
والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبيًا، فكيف نكلِّمه؟! حكاها الزجاج، واختار الأخير منها؛ قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟! أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء.
والرابع: أن {كان} بمعنى: صار، قاله قطرب.
وفي المراد بالمهد قولان:
أحدهما: حِجْرُها، قاله نوفٌ، وقتادة، والكلبي.
والثاني: سرير الصبي المعروف، حكاه الكلبي أيضًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}.
روي أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه.
قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار.
وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يومًا للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكِرين: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشي يفتريه.
قال مجاهد: {فريا} عظيمًا.
وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقًا مفتعلًا؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد.
والولد من الزنى كالشيء المفترى.
قال الله تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] أي بولد يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفرِي الفرِيّ أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفريّ العجيب النادر؛ وقاله الأخفش. قال: فريًا عجيبًا. والفَرْي القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبًا نادرًا.
وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: {شَيْئًا فَرْيًا} بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدّت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحمُلت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا: {يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا} أي عظيمًا؛ قال الراجز:
قد أَطعَمتْنِي دَقَلًا حَوْلِيَّا ** مُسوِّسًا مُدَوِّدًا حَجْرِيَّا

قد كنتِ تَفْرِين بِهِ الفرِيَّا

أي (تعظمينه).
قوله تعالى: {ياأخت هَارُونَ} اختلف الناس في معنى هذه الأخوة، ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا.
قيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي يا أخا العرب.
وقيل: كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرًا في بني إسرائيل تبركًا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي.
وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفًا كلهم اسمه هارون.
وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبلُ؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلًا لذلك.
وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت.
فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدّة ستمائة سنة.
قال: فسكتت.